



أحمد شاب يمني من ضواحي صنعاء عمره ثلاثون عاما متزوج وله ثلاث بنات وولد، ترك اليمن السعيد في عصرها غير السعيد قادما إلى الأردن طالبا الرزق من الله ولعله يحقق النزر اليسير من أحلامه وأحلام أسرته المعدمة ماديا…
جاء أحمد وترك أمًّا وزوجة وأربعة أطفال وربما أخوة وأخوات وكنوز من الذكريات واستقر به الحال في إحدى مزارع حسبان…..
أحمد شاب وسيم خلوق لديه كاريزما نوعية، من رواد المساجد ومن أهل الصف الأول مداوم على صلاة الفجر ولا نزكيه على الله…
بعد يوم شاق من العمل في المزرعة عاد أحمد إلى غرفته المتواضعة داخل إحدى المزارع المجاورة وأغلق الباب والنوافذ وأشعل مدفأته وربما أخذه النعاس ونام، وكانت نومته الأخيره بفعل الغازات السامة المنبعثة من المدفأة…
نام أحمد وأعتقد جازما أنه قد استحضر صورة والدته وصور زوجته وأولاده، وأن روحه قد رفرفت حولهم وجلست معهم وحدثتهم حديث الروح للروح وأجزم أنه قد قبلهم عن بعد واشتم رائحتهم وهمس في أذن كل واحد منهم وطلب من والدته الرضا وسأل الله الرحمة لوالده المتوفى، وشاركهم في خياله الجلوس على سفرة العشاء وتناول معهم (السلتا والمطبق) ولعله استعاد صور الرفاق وعاد إلى مرابع الصبا قبل أن يغالبه النعاس..
أجزم أن أحمد قد ذرف دموعا من دم مثل باقي المغتربين شوقا وحبا وهياما للوطن والأسرة قبل أن ينام نومته الأخيره…
نام أحمد وفي خياله ألف ألف حلم لم تتحقق…
حلم أنه سيعود لوطنه محملا بالهدايا لوالدته والألعاب لأولاده والعطور لزوجته وإخوانه وأخواته وجيرانه..
نام أحمد وهو يحلم بتراب اليمن الوطن ، وأهل القرية ورفاق الصبا وجيران الحي وحقول البلدة وجبالها الشاهقة ودروبها القديمة، ولعله أيضا حلم أن يرى صنعاء من نافذة الطائرة عندما يعود إليها…
كل هذه الأحلام تبخرت وتلاشت باختناق أحمد وصعود روحه الطاهرة إلى بارئها…
أشرقت شمس الصباح وأحمد مسجى في غرفته المتواضعة، وعلم الناس بالخبر الحزين…
تأثر الجميع بشدة على أحمد، أحمد الإنسان أحمد الفقير أحمد المتدين صديق الزيتون وعاشق التراب…
لقد ساق الله الناس إلى جنازة أحمد سوقا، كانت جنازته مهيبة، علامات الحزن والتأثر كانت بادية على محيا الجميع، إذا الله أحب عبدا حبب به عباده…
بكى الدكتور أشرف – صاحب المزرعة التي كان يعمل فيها أحمد – بكى بحرقه وتكفل بجميع المصاريف، وأبو غسان أخبر الشيخ جراح الذي صلى بالناس إماما بأنه مستعد لسداد ديونه إن كان عليه ديون.. عشيرة الرواجفة الكرام تكفلت بتجهيزه بالكفن وملحقاته، الجالية اليمنية تفاعلت بصدق مع الحدث، الكل كان يسارع لتقديم الواجب لأحمد الغائب الحاضر في قلوب الجميع…
هذا التكافل والتضامن المتفرد ياسادة لم يكن غريبا على الأردنيين أهل النخوة والشهامة وعلى حسهم العروبي والإسلامي.
يا أحمد ياصديقي لقد بكاك المسجد وبكتك المأذنة وبكاك المصحف وبكتك المسبحة، لقد أحسست بك من قلبي لأنني كنت مثلك بعيدا عن أهلي تسعة عشر عاما، كابدت ما كابدته أنت، وعانيت ماعنيته ولولا أن قدر الله لي أخوة أعزاء من تلك البلاد الطيبة الذين كانوا كالبلسم الشافي لما استطعت أن أصبر…
لذلك استشعرت بعمق معنى موتك بعيدا عن أسرتك وأطفالك وأنا الذي ودعت عشرات الجنازات من إخوانك المغتربين الذين سبقوك عندما كنت في وطني الكبير.
يا أحمد لقد أثبت أهلك في الأردن أنهم أكبر من بنود اتفاقية سايكس بيكو وأن انتمائهم لأمتهم أكبر من الوصف…..
لقد زفت الجموع التي حضرت الجنازة من أهل حسبان والقرى الطيبة المجاورة والجالية اليمنية الكريمة أحمد إلى مأواه الأخير، وكأن على رؤوسهم الطير وهذه علامات قبول ورضا إن شاء الله تعالى.
أحتضنت حسبان جسد أحمد برفق وبحب ووضعته قوسا يمانيا ورمحا صنعانيا في جبل من جبالها الأبية مقابل القدس الحزينة والأقصى الأسير…
والجدير بالذكر أن معظم مقابر ناعور موجودة في قمم جبالها الغربية المطلة على فلسطين الحبيبة..
رحم الله أحمد رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة…
لقد جرحني موتك يا أحمد وتألمت بشدة أكثر وأنا أتخيل نشيج والدتك المكلومة وصراخ أطفالك الأيتام وكمد زوجتك الثكلى وحزن أهلك ومحبيك وجيرانك وأقرانك…
نمت البارحة قرير العين بضيافة ربك الكريم وبين إخوتك في قرمية حسبان بعد أن أديت ماعليك من واجبات…
لاحول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون…
رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا…
محبكم: صالح سلامة المشاعلة…
