بقلم: الدكتور صالح المشاعلة

كنت قبل أيام قليلة ذاهب لتسجيل حلقات تلفزيونية لإحدى المحطات الفضائية العربية وعلى إشارة مرج الحمام الثانية وجدت ازدحاما شديدا وشاهدت من بعيد طفلا وطفلة يبيعان الورود، الطفل عمره في حدود السادسة والطفلة ربما تصغره بسنة، وهما يسيران بين السيارات مثل أطفال الكرتون كان ذلك في زمن الموجة الحارة الاستثنائية التي اجتاحت الأردن.
ورود بشرية ذابلة ومتعبة من شدة الحر والفقر يبيعان ورودا حقيقية يانعة ومزهرة وغضة،
يسير الطفل بين السيارات بخفة ورشاقة وتتبعه أخته وكأنها ظل له …
يقوم الطفل بعرض بضاعته على أصحاب السيارات ويطرق زجاج شبابيكهم واحدة تلو الأخرى دون أن يلتفت له أحد لإنهم لا يريدون فتح شبابيكهم من شدة الحر.
وصل الطفلان إلى سيارتي وفتحت لهما الشباك، أدخل الطفل رأسه إلى الداخل بلهفة باحثا عن هواء بارد لعله يخفف عنه معاناة الحر الشديد….
سلمت عليه وقلت له أنا اسمي صالح وأنت ما اسمك ؟ قال أنا اسمي سالم وأختي اسمها سلمى رحبت بهما وقلت لهما لماذا يسمح لكما والدكما بالخروج في هذا الجو القاتل ألا تخافان من ضربة شمس؟ وقع كلامي عليهما وقع الصاعقة وفاضت عيون الطفل القريب مني بالدموع وتغير شكله وأصبح وجهه قرمزيا حزينا مكفهرا لدرجة الكآبة وقال الله يرحم أبوي…….
حزنت حزنا شديدا لحزنه وترقرت الدموع في عيني وندمت ندما شديدا على سؤالي واستدركت لعلني أستطيع أن أجبر خاطريهما فقلت لهما أنا سأشتري خمس البوكيهات التي معكما شريطة أن تعودان إلى بيتكما…..
توقعت أنني سأفرحهما بهذا العرض المغري ولكنني تفاجأت بأنه قد رفض بشدة وقال لي لن أبيعك إلا واحدة فقط لأن حاجتك لواحدة وأنا لا أقبل الصدقة
خلال الحوار فتحت الإشارة وطلبت من الطفل أن يلحقني هو وأخته إلى ما بعد الإشارة خرجت عن مسار الشارع ووقفت وطلبت منهما أن يركبا معي في السيارة حتى نكمل الصفقة الكبيرة !!!
ولكنه رفض على الرغم من الجو الحار وحاجته الماسة لبرودة المكيف وقال والدتي أوصتني أن لا أركب بسيارة رجل غريب لأنهم يسرقون الأطفال ويبيعونهم قلت له : نعم الأم أمك هي على حق
ومن حقها أن تخاف عليكما…
ترجلت من سيارتي وجلست معهما على الكاندرين تحت ظل شجيرة ورجوتهما بصدق أن يبيعاني ما لديهم من ورود ويعودان إلى بيتهما ولكن الطفل رفض بقوة….قلت له فكر بعقلية التاجر والتاجر يقتنص الفرص ومن مصلحتك أن تبيع مالديك وتعود إلى بيتك ثم أنا وأولادي لدينا خمسة بيوت وكل بيت بحاجة إلى ضمة ورد… ومع هذا كله رفض يبيعني إلا واحدة عندها أدركت أن هذا الطفل مشبع بالمبادىء والقيم لذا تناسيت الشراء وغيرت الحديث وتحولت من حالة الشفقة إلى حالة الترويح عنهما وتغليب الدعم العاطفي وتشغيل شارع المشاعر وقررت أن أدخل السرور عليهما بأن أستمع لهما أولا وبدأنا نتحدث ونمزح وسألته عن هوايته وأخبرني أنه يعشق السامر قلت له سمعني وفعلا اصطف فورا هو وأخته أمامي وبدأ يقصد ويردد بيتا واحدا من الشعر النبطي…
الليله من ليالي العيد…بلمة ربعي علي…
شعرت أنني قد أدخلت السرور على قلبيهما المثقلان بالهموم وأخبرته أنه محظوظ لأنه تحمل المسؤولية من صغره وتقاسمها مع أخته وقلت له أن والدتك قد أصابت عندما علمتك الأمل مثلما علمتك الألم…
قال الطفل لي أنه المسؤول عن مصاريف البيت وتأمين حاجاته وقد رتب أولياتهما في صرف الغلة على النحو التالي: أولا تأمين الدواء لوالدته المريضة وثانيا تأمين الخبز الحاف والماء وما يزيد يشتريان بعض الحاجيات الضرورية والملحة أي أنهما يعيشان عيشة الكفاف…
بعد حوار طويل وبعد أن أصبحنا أصدقاء تفاهمت مع سالم وسلمى على إتمام الشراء…
رفضا رفضا قاطعا أن أوصلهما إلى( الخربوش) الذي يسكنان فيه وأصرا أن يذهبا مشيا على الأقدام وهما يلبسان بقايا أحذية وعندها بدأ المخرج يتصل بي وسألني أين أنت فقلت له في “ديار سالم وسلمى” قال أين هذه ؟
قلت له هذه ديار الكرامة وأنا قريب منك وهو بذلك قد قطع علي هذه المتعة التي أنستني عملي وأنستني حرارة الشمس الحارقة ودعتهما وفي قلبي ألف غصة وغصة…
مد سالم يده النحيلة المرهقة خلف رقبتي وضمني وقبلني بحرارة وقال لي كلمة أوجعت قلبي قال لي شممت فيك رائحة أبي وحنيته وعطفة أرجوك توقف كلما مررت من هنا وسلم علينا وخذ منا الورد مجانا لإن الكل يتجاهلنا….
ما أعظم سالم وما أعظم سلمى وهما على فقرهما يحملان قيم الكرامة والعزة والأنفة التي عجز عنها بعض الأغنياء… سرحت بعيدا وأنا أثمن عاليا قيمة جبر الخواطر وتذكرت فقرة وردت في قصة نجيب محفوظ والتي يقول فيها عندما شاهدت طفلا يبيع الحلوى على إشارة المرور بكيت ثم قلت : “وأحلام الأطفال قطعة حلوى وهذا طفل يبيع حلمه”…
ما أحوجنا إلى النفوس العظيمة الجابرة للخواطر..
ركبت سيارتي وقلبي متعلق بهما وأنا أردد بيت الشعر النبطي الذي قاله لي سالم وحمدت الله كثيرا وأنا أستحضر تلك الحكمة البليغة
(دوام النعمة ينسيك فضلها).
أكملت عملي وعدت إلى بيتي وأنا أشكر الله وأحمده على نعمه التي أنعم بها علينا ولم نعرف قيمتها إلا عندما نفتقدها…
خالص حبي وتقديري واحترامي لكم جميعا اصدقائي الكرام على متابعتكم الطيبة.


اكتشاف المزيد من News-human media

اشترك للحصول على أحدث التدوينات في بريدك الإلكتروني.

By الإعلام الإنساني

الإعلام الإنساني... الواقع كما هو💬✍️

اترك رد

اكتشاف المزيد من News-human media

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading