


حتى أدرك نسبة الوعي في حقيقةٍ ما، وحتى أستطيع قياس ما لهذه الحقيقة واقعًا مقبولًا اجتماعيًا، فإنه يتوجب عليّ إدراك معنى المفاهيم المطلقة في مجتمعي العربي، والتي بدورها تؤثر بي وبسلوكي ونمط المعيشة لدي ولدى غيري. فإنني كإنسانة يسحرني مصطلح التنمية البشرية، فإنه لفظ يفوق حد الإدراك أحيانًا؛ لأنه يمس مختلف جوانب الحياة الإنسانية. وازداد السحر تأثيرًا عندما أطلق مصطلح أكثر عاطفية وأكثر إثارة في الروح الإنسانية، هو التنمية الإنسانية.
للأسف فإن هذا المفهوم يؤدي إلى اللبس في الفهم ويستخدم للتضليل من قبل الأمم المتقدمة، التي أوهمت الشعوب والأمة العربية بقدرتها على التصحيح.
فإنني لم أدرك ما هية القدرة التي تقوم بها الأمم الغربية في إحداث التغيير والتصحيح والتنمية كما تدعي في أوضاع الشعوب النامية كما سميت قديمًا، فكيف يمكن للغير أن يؤثر في داخل الآخر؟ أليس هذا الآخر هو أنا وأفراد مجتمعي وأمتي العربية، الأقدر على تصحيح الأوضاع والتنمية؟ فأنا كغيري من أفراد هذه الأمة أكثر إدراكًا وتعمقًا في ظروفي وأوضاعي وجوانب الضعف فيها، وإني الوحيدة القادرة على معرفة الأسلوب المناسب للتصحيح، فكيف إذن حصلت الأمم المتقدمة على هذه القدرة والصلاحيات لتسيير أمور حياتي وحياة غيري؟
فإنني أرى هذه الدول قد حققت مرادها بخبث متقن، عن طريق الإغراء في وضع التنمية الإقتصادية الفيصل في تصنيف الشعوب، فجعلت من هذا الجانب إشراقًا يتوهج في عقول وأدمغة شعوب العالم الثالث، مما أدى إلى عميانها وتلهفها للحصول على الترتيب الأعلى في التصنيف. فلا يجب أن يعمينا نجاح أمّة في إحراز تقدم اقتصادي عن فشلها في إحراز تقدم في جوانب أخرى من الجوانب الإنسانية.
فالمعادلة هي.. أن الأمة التي سارت شوطًا أبعد في التنمية الاقتصادية، هي أيضًا التي سارت شوطًا أبعد في التنكر لتراثها وتقاليدها.
فهذا الذي يقلقني، فكلما زاد الانشغال وكثرت الهموم في تسديد الحاجة الاقتصادية المادية لدى الفرد، فإنه حتمًا يقل اهتمامه بالتفكير بتراثه وتقاليده وحضارته وقيمه، التي جميعها تنعكس على السلوك فيما بعد، لذا أين تقع التنمية الإنسانية من هذا الموقع، وأين التنمية البشرية التي يدعو لها الغير؟ فلا مكان لها، إنما وسيلة للإلهاء والزيف الذي يتقمصها التابعون للسير على النهج الذي فرضه أصحاب القرار الأقوياء، من أنماط وسلوكيات الحياة المختلفة التي قد لاتتناسب مع قيمنا، إنما فقط تقوم على إشباع الحاجة المادية الملحة على الدوام الذي فيه حلّا مؤقتًا برأيي.
مع كل هذا فإنه من السهل الكشف عن الفشل الاقتصادي الذريع في الأمة، الذي يكون راجعًا إلى تغيير في أنماط السلوك والقيم والأخلاق، لذا فإنني أرى على ما يبدو أن من الأفضل هو الرجوع بالتعمق في المفاهيم الاجتماعية والعادات، وإعادة صياغتها بالشكل المناسب، حتى يمكن بعد ذلك اختيار نمط العيش الذي نريد لتحقيق الهوية ومعاني التنمية الإنسانية.
