

يبدو أن الكثيرين أصبحوا “توشكا” هذه الأيام لا مهنية لا موهبة لا ثقافة يُستند عليها لذا انعدمت الاحترافية التي كنا ننشدها في عالمنا عالم “السلطة الرابعة” التي ما إن جاء ذكرها هزت الدنيا وارتعشت القلوب وانتظر الجميع كلمة الحق لتعلو، ولكن أصبحت لعبة الفهلوة اللاواقعية والتي تميل للنصب والاحتيال في الكلمة وفي المعلومة وربما في الوقائع، فبدل أن تكون شرعية في القوانين والانضباط والأخلاق باتت تعوم وسط أمواج التخلف والرجعية وإشاعة الفضائح والتطرف والتشهير لتثير الرأي العام وغيرها ولتشبع المصالح الشخصية ولتزيد الظهور وتحقق الانتشار لذويها وأربابها ومتبني هذه الأفكار.
بالطبع نحن لسنا مستغربين مما نراه أمامنا ونسمعه ونقرأه من مشاهد قد تكون بعيدة عن الصحة وعن مسارها السليم وأحداثها غريبة ولا حتى مستغربين من التباين الواضح في الأخبار والمضامين، فالجدل والصراع أصبح سيد المواقف بل وكلما أصبحتَ جاهلاً في المعلومة، وسلوكك وطريقك في جمع الأخبار وأسلوبك في الصياغة والترويج ملتوٍ، أصبحت ذلك الصحفي أو الإعلامي المرموق والذي يُحسب له ألف حساب وأصبحت الخبير وأصبحت المستشار وأصبحت المرجع الآمن رغم أن مسربك وطريقك غير آمن.
إن “سلطتنا الرابعة” وللأسف ـ ونحن بالطبع لا نعمم ـ تفتقر إلى المصداقية والدقة في بعض مساربها، يغزوها التهويل والمبالغة والتهور والاستفزاز، أخبار كاذبة ومحرّفة وقد تكون أخباراً مصنوعة ” فبركة إعلامية “ تُنتهك فيها المنابر والأخلاق والقيم، لا نتحدث عن جهة معينة ولا عن بلد معين فالإعلام الأصفر موجود بقوة في كل بقعة ولكن اللبيب من الإشارة يفهم “واللي على راسه بطحة بحسس عليها”، فالمرض عندما ينتشر نحاول جاهدين الوقاية منه ومحاربته لتجنب الإصابة به ولكن الداء هنا ” فوبيا ” عالمية ابتُليت بها المجتمعات والثقافات.
وعلى ذكر صاحبنا “توشكا” إن كان قد حاول أن ينتحل ويكذب ليكسب الملاليم فإعلامنا أصبح إعلام أبو شلن وبريزة، وكلما تملقت أكثر أو أبرزت مفاتنك أكثر أوكنت جاهلاً أكثر ولا تستطيع ترتيب أحرف كلماتك وتركيب جملك زاد سعرك وكان الطلب عليك أكثر يعني ” سوقك مطلوب “.
نراقب عن كثب ما يحدث في شتى ومختلف الصحف ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة وحتى مواقع السوشال ميديا، المنافسة واضحة وضوح الشمس ولكن خسارة أن المناسفة ليست شريفة، كيف تكون منافسة سليمة وهي قائمة على الجهل والجدل وإثارة المتاعب والنعرات والتفاهات وفضائح الأفراد والمجتمعات والابتزاز!
ونحن هنا لسنا بصدد التطرق لتاريخ الصحافة الصفراء ولا لكيفية اجتياحها لعالم المصداقية لعالم الأخلاق لعالم ” السلطة الرابعة “ ولكن بصدد – على الأقل – أن نسلط الضوء على ما يحدث في صحافتنا وإعلامنا من أهوال ومبالغة في الأمور والتي أصبحت متجذرة لأبناء المستقبل، الذين يعاصرون الأكاذيب والشائعات والتزييف والتنمق والتملق وظنوا أن هذه هي الحياة وهكذا تسير، ولا يعرفون أن الصحافة والإعلام أخلاق وأن الصدق في نقل المعلومة أخلاق وأن الرسالة أخلاق وأن الصورة أخلاق وأن وأن وأن ….. وحريٌ بنا أن نصحح الطريق لهم ، عاديك عن الجيل السابق الذي عام عومهم وأصبح يتجنب التأكيد على حقيقة ما ويتلقى دون تفكير، إن أسلوب الصحافة والإعلام قضية عالمية خطيرة إن لم ننتبه لها ضاع جيل بأكمله.
ومن هنا أخاطب من يعملون في هذا المجال أن يأخذوا بعين الاعتبار أنه سيأتي يوم وجميع هذه الجماهير الغفيرة ستفقد الثقة بكل جهة حاولت أن تزيح الحقائق وتضللهم أو تُغَيب عقولهم وتلهيهم بسفاسف وتفاهات الأمور وتقابلهم بإعلامٍ مهرول قليل العطاء، فالجمهور المُستَقبِل ليس غبياً لهذه الدرجة والغمامة التي على عينيه ستزول ويرى بوضوح حينها سيُميز الصواب من الخطأ، وهنا سيكون من الواجب أيضاً العمل على إعادة بناء المصداقية بين الإعلام كجهة مُرسِلة للرسالة بكل أنواعها وبين جمهوره المُستَقبِل لهذه الرسالة، وهذه استراتيجية واضحة قد تكون جيدة نوعاً ما على المدى البعيد.
وقبل كل هذا أوجه كلمتي لكل مسؤول وصاحب ذي سلطة ولكل إعلامي وصحفي ولكل من له صلة في هذا المجال، “الصحافة والإعلام” عملة لا تُقدر بثمن فإما أن تجعلك في القمة وإما أن ترديك أسفل السافلين وكي لا تكون النتيجة مأساوية لك ولنا وللجميع، دعونا ننظر لمخرجات كليات الصحافة والإعلام، دعونا ندقق جيداً لما يدور هناك، لمفهوم الإعلام لدى كل طالب أراد أن يكون صحفياً أو إعلامياً، إن انتبهنا لهم وعلمناهم أصول المهنة وأخلاقها حق تعليم وشعروا بحس المسؤولية اتجاه أنفسهم ومجتمعاتهم وأوطانهم لعرفوا أن الإعلام ليس أن أكون واسع الانتشار، ذائع الصيت، شديد الأثر بالحقيقة المغلوطة والصوت المرتفع والألفاظ النابية واستفزاز الآخرين ولا حتى بالسيطرة على عقولهم ولا بالتعري واللاأخلاقية ولا بإثارة الرأي العام بقضايا غير حقيقية، الإعلام أخلاق، قوة، تَفَوّق، كيان مؤثر على وجه الأرض، سُمي بالسلطة الرابعة إلى جانب السلطات الثلاث لدوره الفاعل في تعميم المعرفة والتوعية وتوجيه الرأي العام ومناقشة قضايا المجتمع، وتحقيق المصالح العامة، لا يمكن الاستغناء عنه فهو مرادف للإنسان منذ نشأته حتى الآن وسبب رئيسي في تطوره ورقيه، فلماذا نجعله سبباً رئيسياً في الدمار؟
اترك رد