

يبدو أن الخصوصية التي كانت خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه أو حتى تعديه عند معظمنا باتت سهلة المنال وعنواناً للتحضر والرقي والانفتاح
فكلما عَرَضْتَ نفسك وعَرَضْتَ حياتك بكل ما فيها من صغيرة أو كبيرة ـ تماماً كمن يعرض بضاعته أمام المارة وأمام من هَبّ ودَبْ ومؤمناً بمقولة “اللي ما يشتري يتفرج” – أصبحت مشهوراً ومُتابَعاً أكثر، والأدهى والأَمَر أصبحت أُنموذجاً يُحتذى به داخل المجتمعات، والشهرة التي كان ينشدها من يستحقها فعلاً لإنجازه ولأعماله ولإبداعاته وكان يتعب للحصول عليها صارت وجهة وطريقاً سهلاً يلهث ورائها من يريد كسب المال وتحقيق الأرباح ولو على حساب سمعته وكرامته وحياته.
والداهية أن هناك أيادٍ داعمة مُساندة لأمثال هؤلاء يتسترون بشعارات كاذبة منمقة “فالتنافس للجميع” كما يَدّعون ولكن الحقيقة المرة أن المحافل واللقاءات والمؤتمرات والمنافسات ليست متاحة إلا للشخصيات التي حصلت على أعلى عدد من اللآيكات والشهرة عبر وسائل “السوشيال ميديا”، وبقدر عدد متابعيك وجرأتك في تخطي الخطوط الحمراء في الأدب والاحترام تكسب الثقة وتصبح المثل الأعلى الذي سيحذو حذوه الكثيرون ليس لمجرد حب الشهرة فقط وإنما بسبب العائدات المالية التي يمكن تحقيقها وهنا قد تتحدث باسم البلاد والشعوب وكلمتك مسموعة ونصائحك متبعة وخبرتك في اللاشيء وفي الجهل هي الزبدة وخبرة الحياة التي سيأخذونها منك، وسيأخذون أيضاً الموعظة والحكمة والنصيحة وغدوت هنا البطل المغوار الذي يخبرنا عن الصولات والجولات من أرض المعركة من عُقر بيته ومن صميم حياته فالمتابعين يعرفون حتى أدق التفاصيل، موعد النوم وآليته، ما اللباس الذي يرتاح به؟ متى سيأخذ حمامه الساخن وما هي الأسباب؟ أين سيسهر الليلة؟ من الصديق المفضل؟ ماذا يجب على الزوج والزوجة فعله؟ حتى في اختيار المنزل ومكان الرحلة أو موعد الذهاب إلى السوبر ماركت وماذا سيشتري وماذا سيأكل و… و…. و… كلام فارغ لا فائدة منه لا يُسمن ولا يُغني من جوع ، وإذا لم تنفع كل هذه الأفكار والوسائل انتقلنا للمقالب والتحديات والحيل حتى ولو كانت على حساب أن يُدخل أفراد العائلة بأكملها في هذا الموضوع ـ وما أكثرهم – أو أن يُدخل الأطفال في قصص لها أول وما لها من آخر فلا مشكلة عنده حتى لو كانت مقلباً مروعاً قد يودي بحياة أحدهم ولا مانع من أن يجعل كبير العائلة عبارة عن كراكوز ولعبة مضحكة للجميع – خسارة فقد الكبير هنا هيبته وكرامته واحترامه -، أقوال وأفعال وسلوكيات تمس الآداب والأخلاقيات العامة، هوس” السوشيال ميديا” ،رغبة في الشهرة والثراء السريع، تجدهم سُكارى وما هم بسكارى مسلوبي الإرادة أمام المتابعين، ولديهم الاستعداد لفعل أي شيء مقابل زيادة أعداد المتابعين والمشتركين.
أما المفكرون والمثقفون وأهل العلم والفن والأدب وحتى أهل السياسة وكل من له قيمة وسعى جاهداً في حياته ليكون عنوان حياة وأمل وشعلة ومنارة علمٍ في يومٍ من الأيام ووهب نفسه وعلمه ومؤهلاته في سبيل رفعة ورقي البلاد فنحيطكم علماً أنه في ظل المهزلة التي يعيشها العالم الآن والتخلف والرجعية التي يعتقدها البعض رُقياً وتطوراً وبسبب سوء التعامل مع “وسائل السوشيال” ميديا فلا حاجة لنا بهم، فهؤلاء الأشخاص لا معجبين ولا متابعين لديهم والكثير منهم غير فاعل عبر وسائل التواصل هذه، والكثير منهم يمتلك الحنكة والحكمة والعقل المفكر إذاً هم من الغير مرغوب بهم داخل المجتمعات، و الكثير منهم غير معروف واسمه غير مشهور وليسوا جنوداً فاعلين داخل وسائل التواصل الاجتماعي، فما أهميتهم؟
خسارة كبيرة ما آلت إليه العقول اليوم خسارة كبيرة أننا وصلنا إلى هذا الدنو من التفكير، من الواضح أن الحياة اليوم باتت نسبية، لا معايير ولا قيم ولا حتى منظومات تضبط معظمنا، للأسف لم تعد هناك حرمة خاصة ومن الواجب احترامها، غاب الرضى وحُرمنا القناعة، انعدم الحس وانعدمت الغيرة وذهبت النخوة ولم تعد هناك بروتوكولات خاصة يتبعها الناس في عمليات التواصل والتعامل، اختلط الحابل بالنابل، وغزا المجتمعات الهوس والترحيب بأي نظرية لا أساس لها أو تصرف غريب وتهافت المعظم على كل شيء غريب لا فائدة منه، جنون أدى إلى الفجور والتنمر وحتى الادعاء بالمرض، كذب ونفاق ” وكله بيضحك على كله “ مستوى هابط يتنافى مع مبادئ وأخلاقيات المجتمعات التي نعيش بها، وكله تحت شعار ” الترفيه والتسلية وتضييع الوقت “ أي ترفيه وأي تسليه في أن أنشر حياتي وخصوصيتي ومقتنياتي ومكان سكني وعملي وحياة الأهل وغيرها من الأمور ؟! أي ترفيه هذا في أن أجد الجميع والكل والمعظم يتناولون سيرتي وحياتي ويتحدثون عنها ويلوكونها كما يلوكون اللبان في أفواههم؟! أنقبل هذا باسم الشهرة والترفيه وإضاعة الوقت؟!
ما عشنا لنكون أضحوكة وما عشنا لنكون عبيداً للمال .
ونحن اليوم لسنا بصدد أن نقول هذا يجوز وهذا لا يجوز ولسنا بصدد أن نوضح آلية التعامل الصحيح والنشر السليم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ولكننا بصدد أن نتساءل إلى أين يأخذنا جنود “السوشيال ميديا” في عالم “الفومو” الذي يعيشه الجميع؟ وإلى أي مدىً أصبحت الحياة التي نعيشها ما هي إلا مجرد اختلاسات للنظر واستراقٍ للسمع للتعرف على خصوصيات الناس والأفكار والتصرفات الغريبة بالرغم من أنها مُتاحة ” الكل يرى والكل لا يعي”، بالفعل تحولات لا نجد لها مبرر، متاهات تُعمي البصيرة وتودي بأصحابها إلى التيه، والكل خائف من فوات الشيء، الكل قلق ومتوتر من أن تفوته الأحداث والفعاليات ولا يستطيع التفاعل والتعاطي معها، الكل متأهب ومستعد وبانتظار ما يُنشر، مستعدون لتأجيل أولوياتهم حتى لا يُفَوِتوا أحداث ومنشورات “السوشيال ميديا”، الأمر حقاً مُحزن.
وفي مقالنا اليوم نؤكد لكم أننا لا نعمم فهناك أشخاص أثبتوا حقاً أن مواقع “السوشيال ميديا” هي منصات لنشر الوعي والثقافة وحققوا نجاحاً كبيراً في ذلك، ونؤمن أن هناك الكثير من الجهات التي تدعم وتحترم أصحاب العلم والفكر والفن والأدب والثقافة وأن لهم شأن كبير بين من يعرفونهم حق المعرفة ويُقدرونهم حق التقدير، ونؤمن أيضاً أن تاريخنا وحضارتنا عريقة تستحق التنقيب عنها واحترامها والاعتزاز والتباهي بها والمحافظة عليها، ونؤمن أن لكل قاعدة شواذ ويبدو أن ما نعيشه من ظاهرة جنون وهوس شهرة “السوشيال ميديا” وعالم الثراء السريع ما هي إلا ظاهرة عابرة لا بد من أن تنتهي يوماً.