



كنت قبل أيام قليلة في مراجعة لأحد المستشفيات لإجراء بعض الفحوصات المخبرية الدورية وعندما خرجت من المختبر شدني منظر غريب جعلني أتريث قليلا بدافع الفضول حيث رأيت شابًا وسيمًا مبتسمًا بشوشًا عالي الهمة لباسُه متواضع يدفع برفق كرسيين متحركين يجلس فيهما على ما أظن والده ووالدته حيث أوصلهما إلى صالة الانتظار بمنتهى الحرص وبعناية فائقة والعرق يتصبب من جبينه …
تظاهرت بأنني من أصحاب المواعيد وسرت نحو والديه وجلست في أقرب كرسي منهما وبدأت أتابع المشهد بدقة
والده رجل وقور ذو لحية بيضاء تكسوه هيبة … ووالدته سيدة طلقة المحيا فيها بقايا وسامة أكل عليها الدهر وشرب…
كان معظم من بالصالة مشغولين بهواتفهم ولم يهتم منهم أحد بالمشهد غير أنني أحببت من باب العبرة والتقدير أن أتابع هذا الشاب البار بوالديه تظاهرت بأنني مشغول بهاتفي والحقيقة أن عقلي وقلبي معلقان بالشاب إعجابا بجميل صنيعه مع والديه…
اطمئنَّ على والديه ومازحهما ثم استأذن منهما بكل لطف ومحبة ثم استدار نحوي وقال لي لطفًا لا أمرًا خلي بالك منهما حتى أعود قلت له: أبشر ثم غادر مسرعًا إلى الكاونتر حتى يتمم إجراءات المعالجة الروتينة وكنت أتابع كل حركاته بشغف….
وصل أخير إلى كوّةِ المحاسبة وانتظم في الدور وعندما جاء دوره تفقد كل جيوبه باحثا عن محفظة نقوده كما أظن ولكنه لم يجدها تأخر قليلا في البحث مما أدى إلى احتجاجات المراجعين الذين يصطفون خلفه انسحب من أمام الشباك حائرًا مهمومًا مكسور الخاطر وتوارى عن والديه وجلس على كرسي بعيد واضعا كلتا يديه على وجهه حتى يداري ضعفه وانكساره هزني المنظر من أعماقي وحرك أشجاني واستثار مشاعري وتوجهت نحوه مسرعًا ولكن رجلًا خيرًا كان أقرب له مني وأسرع أيضا حيث سبقني إليه سلم الرجل على الشاب ولكنه لم يرد مد يده إلى وجه صاحبنا وفك يديه وإذا به يبكي بمرارة سأله لماذا تبكي كل هذا البكاء قال له بصوت متقطع وبلباقة وكياسة ” واحد محترم -لاحظوا نعت الحرامي بالمحترم – سرق مني محفظتي ” تكلم بصوت متهدج وعبراته متقطعة تكاد تخنقه وأردف قائلًا ماذا أقول لأمي وأبي ؟ جئت بهما للعلاج وسأعود خائبا وخالي اليدين
يا إلهي دموعه كأنها اللؤلؤ جمله الله بجميل صنيعه مع والديه فجعله آية في الحسن والخلق والسلوك …
قال له صاحبنا يا أخي الأمر هين وأكثر من بسيط والمبلغ زهيد والناس للناس يارجل والمعروف ديدن الخيرين والخير الحمد لله كثير والخيرون في مثل هذه المواقف يقتنصون الفرص باحثين عن الأجر والثواب قال الشاب بغضب لا تحاول ( أنا رجل صاحب مبدأ) وإذا أضطررت سأوصل والدي إلى بيتي على كرسيهما ولا أمد يدي لأحد قال له يا أخي اصدقني القول هل أنت من كوكبنا ؟ يارجل توصل أبوك وأمك بكرسيهما لمسافة لا تقل عن عشرة كم سيرًا على الأقدام هل انتهت النخوة والفزعة والرجولة بيننا نحن في الأردن أهل الكرم والرجولة والشهامة والمعروف إن شاء الله لن ينتهي بين الناس؟
أين النخوة والشهامة؟ والحمية ثم أجبني بصراحة هل أنت حسود؟ رد بعصبية لا طبعا معاذ الله أن أكون كذلك قال له إذا أعطني الأوراق لأكمل الإجراءات وأمر السيارة محلول بإذن الله سأطلب لك سيارة على حسابي في هذه اللحظة تدخلت وقلت لهما إخواني أنا سيارتي معي في الموقف وليس معي أحد وأتشرف بشدة أن أوصلكم إلى بيتكم فأنت من أشباه الصحابة رفض رفضًا قاطعًا في البداية قلت له هل أنت بخيل أريد أن أشرب الشاي في بيتكم قبل العرض على مضض مرحبًا بي بشدة وتمت باقي الإجراءت وتعالج والداه وعاد وجهه ما شاء الله كما كان مشرقا أحسست أن هناك نورًا ربانيًا يشع من جبينه الوضاء انطلقنا نحو بيتهم حمل والدته أولا ثم والده وأقسم علي أن أبر بوعدي نزلنا من السيارة ودخلنا بيته…
بيت صغير مريح محاط بالورد والريحان وكافة أنواع الزهور والورود عامر بالحب مشبع بالعواطف قال لي ماذا تشرب ؟ قلت له كما قلت لك سابقا شاي بالنعنع أعد الشاي بنفسه وقال لي أنا لم أتزوج ونذرت نفسي لخدمة والديّ….
قلت له أنت على خير وهنيئًا لك من قلبي شربت معهم أجمل كاسة شاي مع أجمل ناس في أجمل بيت مع أجمل شاب بار بوالديه ترك حياته الخاصة من أجل خدمة والديه…
عدت بسيارتي وأنا أردد بصوت مرخم ( الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة )
لم أتمالك نفسي بعد أن ودعتهم وداعًا له طعم خاص ولون خاص ونكهة خاصة… عدت من عمان صوب حسبان ببطىء أضرب أخماسي بأسداسي واستحضر كنوزا من الذكريات وفي نفسي بقايا من زمن أصيل جعلني أسير على غير هدى …
بوركت يا ماجد فأنت فعلا ماجد قولا وفعلا وبورك البطن الذي حملك وبورك من رباك جعلتني أجزم بأن الدنيا سلف ودين …انتهت الحكاية…
