
“هو حر مالم تبدأ حرية الآخرين”

د. أريج النابلسي
لستُ من الذين يخوضون في أمور الدين والشرائع ولا من الذين ينسبون لنفسهم التدين المفرط والزائد عن حده ولا من أصحاب القيم المثالية، ولكن أنا من الذين يدافعون عن إنسانيتهم وهذا هو صُلب الموضوع فجميع الشرائع تنادي بالإنسانية وباحترامها وبتقديرها قبل كل شيء ولكن ما نراه في زماننا هذا لهو العجب العجاب.
قد لا تكون الأحداث والوقائع جديدة ولا هي وليدة هذا الزمان وعلى الأغلب هي منذ أن خلق الله الأرض وما عليها، صراعات متتالية، نزاعات متوارثة، قضايا وهموم… ولكن الجديد هو التطور في الأسلوب وفي نقل المعلومة وانتشارها
حيث صار كل شيء أمام الملأ فأصبحنا نرى أكثر ونسمع أكثر إلا أن الشعور أصبح أقل والأحاسيس باهتة لأننا اعتدنا هذه المشاهد التي باتت في كل بيت وفي كل شارع وفي كل مجتمع وفي كل مكان.
اعتدنا الصراعات اعتدنا القتل اعتدنا رؤية الدماء اعتدنا المشاجرات اعتدنا النزاعات والاعتداءات، لذا فإن حدوث أي شيء من هذا القبيل وعلى هذا الغرار أصبح عادياً جداً، لأن هذا هو الواقع المفروض والذي لا نستطيع تخبأته أو التغاضي عنه، رغم أنه ذاته ونفسه في كل زمان وفي كل مكان على بسيطة الأرض، والاختلاف أننا الآن في قرية صغيرة -هكذا وصفوا العالم الذي نعيش فيه- وباعتقادي هذا ما دمرنا، بقدر ما كنا نفخر بأن التطور جعلنا نعيش أجواء القرية الصغيرة بقدر ما وجدنا أنفسنا نلعب في النار وندمر بعضنا البعض.
ما احترمنا هذا التطور، ما احترمنا هذه الإنسانية، ما حاولنا أن نُرضخ هذه الإنجازات التكنولوجية لصالحنا بل على عكس ذلك تماماً وظفناها لسلاحنا القذر للنفس الإنسانية الأمارة بالسوء والشر وتركنا لها الحبل على الجرار وفتحنا الأبواب على مصارعها وأغلقنا عقولنا بأقفال لا يمكن نزعها وأقفلناها وأبعدناها عن منافذ الصواب وعن رؤية الحق، أناس تدافع عن مبادئها وأناس تحارب من أجل نزع المبادئ وتدميرها، أناس تعيش لقيمها وأناس تتحايل على القيم لانتزاعها والتخلي عنها.
وإن أردنا الخوض أكثر أو تخصصنا في الحديث عن موضوع بأم عينه وجدنا أن كل مواضيع الأرض ومجالاتها للأسف تخضع لذات التطور الهادم، خسارة أن نقول تطور ونجد عكس ذلك، خسارة أن نتباهى أننا وصلنا القمر ونحن ما تجاوزنا حد الأنوف في رؤيتنا وأفكارنا، خسارة أن نقول وصلنا للذكاءات الصناعية والبعض أغبى من أن يستخدمها في التطور والرقي، أتدرون لماذا؟
لأن الأغلب أصبح يفكر كيف سينتقم؟ كيف سيهدم؟ كيف سيقود الأمم للحضيض؟ كيف سيحارب البشرية ويريق الدماء؟ كيف سيشوه سمعة الآخرين؟ كيف وكيف وكيف…؟
وكعادتنا يا سادة يا كرام بالطبع ” لا نعمم ” ولكن الشر ينتشر والسوء يسود والناس تسعى لخراب المعمورة بأيديها.
لم لا نجعل ما وصلنا له ونوظفه لخدمتنا وخدمة إنسانيتنا؟ لم لا نضع العقول في مكانها والأفكار في مسارها الصحيح؟ لم لا يكون همنا هو الإصلاح لا التدمير والانتقام؟
لم لا نضع أجناسنا وكل ما يتعلق بنا ـ ولو مؤقتاً ـ جانباً ونتعامل بمحبة وتسامح إنساني، كل له دينه وكل له معتقده وكل له هويته وكل له أفكاره وانتماءه لا نفرض على أحد شيئا ولا نفرض عليهم أن يكونوا طبق الأصل عنا، فكل حر في اختيار طريقه وحر في اختيار عقيدته وحر في اختيار ما يريد مادام أنه لا يؤذي نفسه ولا يؤذي الآخرين، إذاً كل منا له الأحقية في فعل ما يريد “هو حر مالم تبدأ حرية الآخرين”.