

إذا كانت الحداثة قد أدت ما عليها في دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، واستنفذت رصيدها الحضاري ثم تأزمت وانسحبت من المشهد شيئًا فشيئًا لتفسح المجال لما بعد الحداثة باعتبارها البرزخ الفاصل بين الحداثة وبين إطار حضاري جديد لم تتشكل ملامحه بعد؛ فإنها رغم ذلك لم تؤدِّ بعد كل ما ننتظره منها في عالمنا العربي، ولا زلننا نتوق إلى المزيد من “التحديث”.
تلك هي الحقيقة التي يمليها علينا منجز الحضارة الحضارة الغربية وخطواتها الوثَّابة نحو التقدم؛ ولذلك يتحتم على الكاتب والمفكر العربي أن يظهر معالم نجاح الفلاسفة الحداثيين رواد النهضة والتنوير في خلق أفق حضاري ملأ الدنيا حيويةً وفاعليةً، وساهم في خلق الطفرات الكبرى التي حطمت خوف الإنسان من الطبيعة وأتاحت له تطويعها لتحقيق منافعه ورفاهيته.
ولا شك أن فلسفة “جون ديوي” الطموحة التي اعتمدت الأسلوب العلمي في التفكير، وسلكت نهجًا برجماتيًا ظاهرًا؛ لا شك أنها ساهمت في تفوق الولايات المتحدة الأمريكية وتصدرها عالميًا منذ أربعينيات القرن العشرين.
“جون ديوي” هو أحد دعاة النفعية الكبار الذين ظهروا في الوسط الفلسفي الأمريكي بمطلع القرن الماضي، ومن عجبٍ أن النفعية في بعض أوساطنا الثقافية لها سمعة غير طيبة فهي ترادف الانتهازية لدى البعض!!
وحتى يزول الالتباس نوضح المعنى الحقيقي للنفعية، فنقول إنها الفكر العملي الذي يرى الحقيقة في المنجز الذي تؤدي إليه الفكرة، فهو لا يعول على اتساقها المنطقي وقوة البراهين التي تستند إليها بمقدار تعويله على مآلات هذه الفكرة إذا طُبِّقَت على أرض الواقع.
ويمكن القول إن النزعة النفعية عند “جون ديوي” ترجع إلى اشتغاله بتدريس الفلسفة في جامعة “شيكاغو” حيث رأى هذا الفيلسوف ساكني شيكاغو على قطيعة جذرية مع أي فكرة غير ذات مردود نافع؛ إذ لا يؤمنون إلا بالعمل والسعي، ولعل هذا هو الوجه الإيجابي لنمط الحياة الرأسمالي، ولنا بالطبع أن ننفر أشد النفور من الرؤية المادية المطلقة للحياة؛ إلا أن الإنصاف يحتم علينا الاعتراف بالخدمات الجليلة التي قدمتها البرجماتية للإنسان المعاصر.
وبناءً على ما سبق نرى أن دراسة النفعية بعمق تقدم للمواطن العربي رؤية فكرية مختلفة تساعده على تجاوز أزماته الحالية سواءً على المستوى الشخصي أو الجمعي؛ ذلك أن فلاسفة هذه المدرسة نجحوا دون شك في المزاوجة بين الفكر والعمل، ودعوا إلى إحداث تغييرات تؤدي إلى إصلاح اجتماعي شامل وحياة كريمة للأفراد.
ويشرح لنا ديوي وجهة نظره قائلًا: “إن أي فكر لا يؤدي إلى نتيجة منشودة فهو فكر أجوف، وإن أهمية الفكر لا تكمن في عملية التفكير ذاتها؛ وإنما تُستَمد من النتائج الملموسة لهذه العملية، وبعبارةٍ أخرى يجب أن يكون الفكر قادرًا على مواجهة المشكلات التي تقابل البشر وإيجاد حلول لها”.
لقد تركز طموح جون ديوي في إحداث فلسفة عملية توازن بين قيمة الفرد وقيمة الجماعة، وهذه الفلسفة تدعو إلى نظام صحيح قائم على المرونة في علاقة الفرد مع جماعته التي ينتمي إليها، ومن هنا نشأ اهتمامه بربط الفرد مع الجماعة من خلال التربية؛ فلأن الفرد حتى يحقق ذاته ومصالحه لابد أن يكون نافعًا للجماعة؛ فلابد إذن من تربيته وتعليمه جيدًا من خلال منظومة تعليمية تتجاوز الحفظ والتلقين إلى التعليم من خلال النشاط اليدوي، والتجريب بالمختبرات المدرسية، وتوخي عدم جرح نفوس الطلاب، وإعطاء أولوية قصوى لعلم النفس التربوي، والاعتماد على حوار المعلم مع التلميذ، وما يسمى بالتعلم الذاتي من خلال وضع الطالب أمام مشكلة ومنحه الفرصة الكاملة لحلها بمفرده دون توجيه مسبق، وتقتصر مهمة المعلم في المقابل على التوضيح والتعديل والتقييم.
والفلسفة عند “جون ديوي” هي سلطة تشريعية مهمتها نقض القيم الآنية، واقتراح قيم جديدة تواكب التغييرات الحاصلة في الحياة، بالإضافة إلى تفسير نتائج العلم؛ أما التربية عند هذا الفيلسوف فتبدأ بالطبع مع المدرسة، والتي يجب أن تكون مجتمعًا صغيرًا يعد الطالب لمواجهة المجتمع الكبير والعيش فيه بمرونة وفاعلية، ثم تستمر التربية حتى ينتهي عمر المواطن؛ إذ ليس لها سن محدد ولا تتوقف عند حد معين.
ولقد أسدى إلينا هذا الفيلسوف النابه معروفًا حين أوضح أن الفكر الحقيقي يبدأ من عقدة أو موقف إشكالي؛ وبالتالي يسعى الإنسان إلى الحل من خلال إعمال عقله الواعي مستهدفًا توليد أفكار نافعة تساهم في حل المعضلات وتقدم النوع البشري؛ ومن ثم تتلاشى كل الأفكار الراديكالية التي ثبت عدم جدواها، وتصبح عملية الفكر مستمرة ولا تتوقف عند ما يعتقده البعض من الحقائق المطلقة؛ فكل فكرة قابلة لإعادة النظر؛ فإما أن نطورها وإما أن نعدلها وإما أن نلغيها تمامًا.
كما أسدى “جون” إلى التعليم معروفًا كبيرًا حين نقض مقولة “جون لوك” الشهيرة: ” يولد الإنسان وعقله صفحة بيضاء خالية من الكتابة” ونقضه لهذه المعلومة يعني أن طريقة التعليم المثمرة تعتمد على الحوار وحل المشكلات لا على التلقين البائس.
ونظرًا لإيمانه بأهمية التربية والتعليم، وعنايته بتحديد الغرض من العملية التعليمية، وربط النظريات بالواقع من غير الخضوع للتقاليد والعادات، فإن “جون ديوي” يعتبر أشهر أو من أشهر أعلام التربية الحديثة عالميًا، وهو الأب الروحي للتربية التقدمية المتدرجة.
ولم يقف “ديوي” عند حدود التنظير بل كان من أوائل الذين أسسوا المدارس التجريبية في أمريكا؛ حيث أسس بالاشتراك مع زوجته مدرسة في شيكاغو. وفي إطار غرس القيم كان يؤمن بضرورة الإقناع العقلي في التربية الأخلاقية، وقد أوضح لنا هذا المنحى التربوي في كتابه “نظرية الحياة الأخلاقية” إذ لا يكفي المدح والذم ولا حتى الثواب والعقاب؛ وإنما لابد من الإقناع بضرورة الفضائل، ومعرفة مدى عدالة القيم المطبقة وقدرتها على تنمية حياة الإنسان وتحقيق مصالحه.
إن أساس الأخلاق عند “جون” يكمن في معرفة أسباب العادات التي ينبغي علينا أن ندرجها ضمن أسلوب حياتنا، والتأكد من معايير الخير القائمة فيها، والخير عنده هو ما يصلح حياة الإنسان ويجعلها أفضل، ويوجه الفيلسوف الدعوة إلى واضعي القوانين لكي يهتموا بالرؤية الثاقبة لنفعية قوانينهم وعدالتها؛ وإلا فإن الأعمى سيقود أعمى على حد تعبيره.
ولم يفت “جون” أن يناقش الفلسفة الماركسية التي اختلف معها لأنها لا تؤمن بحرية الفرد ولا بالديمقراطية، فهي فلسفة تهمش الفرد بدعوى نبذ الأنانية، وتعلي في المقابل من شأن الجماعة مطلقًا، وفي نهاية كتابه “الحرية والثقافة” يتحدث “ديوي” عن أمريكا باعتبارها نموذجًا عالميًا يقوم على البحث العلمي والمنهج التجريبي والإيمان بالتعددية الثقافية.
ونعتقد أن فلسفة “جون ديوي” مهمة للشعوب العربية؛ لأنها تعلي من شأن التفكير العلمي القائم على الفهم والتحليل وحل المشكلات بدلًا من حشو الأذهان؛ فالأصل في التعليم غرس المنهج العلمي للتفكير، والأصل في الفلسفة حل مشكلات الإنسان.
ولم يقف “ديوي” عند حدود المنطق القديم؛ بل أسس منطقه الخاص مطلقًا عليه تسمية “نظرية البحث” وهي النظرية التي عارض بها المنطق جميعه، القديم والحديث على حدٍ سواء، وهذا – كما يوضح- لأن العلم تغير في العصر الحديث عما كان عليه سابقًا؛ فالعلم القديم كان يعتمد على أساس الصفات الكيفية لا على أساس المقادير الكمية، والعلم الحديث يهتم بالعلاقات القائمة بين مختلف الظواهر، وينظر إلى الحركة بوصفها ظاهرة متجانسة في شتى صورها وأشكالها.
بقي القول إن “جون ديوي” من مواليد 20 أكتوبر لعام 1859، وكانت ولادته بمدينة “برلنجتون” التابعة لولاية “فيرمونت” بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو حاصل على الدكتوراة في الفلسفة عام 1884 من جامعة “جون هوبكنز” وفي عام 1894 انتقل إلى جامعة “شيكاغو” وكانت حديثة التأسيس آنذاك، وفيها صدر القرار بتعيينه رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية، ومن أهم وأمتع مؤلفاته كتاب ” كيف نفكر وكيف نحل المشكلات” وفيه يضع خمس مراحل لحل أي مشكلة على النحو التالي:
1- الشعور بالوقوع في المشكلة.
2- وضع تعريف مناسب للمشكلة وتحديدها.
3- وضع فرضيات واقتراح الحلول.
4- تجربة الفرضيات الموضوعة للتحقق من ملائمتها وقدرتها على الحل.
5- من خلال نتيجة التجربة نصل إلى التعميم والنظرية، بعبارة أخرى: نصل إلى النظرية العامة لحل المشكلة.
وفي الأول من يونيو لعام 1952 توفي أحد أهم التربويين والفلاسفة في القرن العشرين، إنه “جون ديوي” الذي رأى أن الجماعة النموذجية هي المتصفة بالمرونة بحيث تساعد على النمو الشامل للفرد، وليس انقياده وتبعيته، وبذلك تتجرد النفعية مما ألصِق بها من تهم، وتبدو فلسفة إنسانية على نحوٍ ما.