

وفاء بنت أنيقة رقيقة راقية ذات خلق ودين ، توفي والدها عنها وهي طفلة لا تذكره ، ولا تذكر ملامحه لكنها سمعت من أمها عنه الكثير رسمت له صورة مثالية في ذهنها كانت تتوجع ويتفطر قلبها حزنا عندما كانت تسمع البنات يتحدثن عن آبائهن، ولإنها يتيمة الأب فإنها لا تملك من أمرها شيئا سوى الدعاء له في ظهر الغيب وأحيانا تغالبها دموعها حزنا وكمدا، تحمل صورته في حقيبتها بين كتبها ومذكراتها لكن الله – سبحانه وتعالى – يجبر خواطر عباده لذا عوضها بأمٍ مثالية ونادرة حنانها يفوق الوصف أم عاقلة مثابرة مدبرة ومضحية قامت مقام الأب والأم وخففت من معاناة الفقد عند أولادها الذين لم يروا والدهم، تعلقت وفاء بأمها بشكل خاص ولم تعد تطيق البعد عنها ولو لسويعات…
كبرت وفاء وأكملت دراستها الجامعية وبعد تخرجها بعدة أشهر تقدم لخطبتها طبيب يعمل في الخليج العربي وقعت في حيرة كبيرة بين قلبها وعقلها، بين أمها وحياتها، لكن الأم الحكيمة قدمت مصلحة ابنتها على نفسها مع أنها مثل روحها ومع هذا شجعتها على الزواج…
أطاعت وفاء كالعادة والدتها بلا تردد وتمت مراسم الخطوبة وبعدها الزواج، سافرت بعد مدة وجيزة، والتحقت بزوجها، وكانت تعيش بعقلها وكيانها وخيالها مع والدتها، وكان قلبها معلق هناك على جدران بيتهم العتيق كما أنها عاشت بمشاعرها وأحاسيسها ووجدانها مع زوجها وأولادها …
سارت الأيام رتيبة ثقيلة ورزقت وفاء بولد وبنت وكانت تترقب أيام الإجازة بشغف وشوق؛ لترتمي حين تعود بحضن أمها الدافىء، وتغفو على صدرها بشوق ومحبة وتستعيد ذكريات طفولتها وشقاوتها وتستشعر أنفاس والدتها …
كلما انتهت الإجازة وعزمت وفاء على السفر تشعر أن قلبها سيخرج من صدرها، وأنها تكاد تختنق من ألم الوداع والفراق…
عادت إلى بيتها خارج الوطن وهي تشعر هذه المرة بضيق غير مسبوق، تشعر أن قلبها مقبوض، وتحلم أحلام مزعجة وكوابيس مرعبة وبعد شهر من سفرها اتصلت بها أختها وأخبرتها أن والدتها قد أصيبت بمرض مفاجىء وعليها الحضور فوراً جن جنون وفاء وخرجت عن طورها وبدأت تبكي بحرقة وبمراره وبألم شديد…
حجزت على أول طائرة قادمة إلى عمان وعلى الفور توجهت من المطار مباشرة للمستشفى وكانت دقات قلبها تسابق قدميها وما أن وصلت إلى الطابق الثاني الذي ترقد في أحد غرفه والدتها، حتى سمعت بكاء وعويلا يخرج من نفس الغرفة….
فاضت روح والدتها قبل دقائق لم تتمالك نفسها سقطت مغشية عليها تم إسعافها بسرعة وبعد مدة استعادت وعيها وسارت بتثاقل نحو الغرفة بمساعدة إخوانها كم كانت صدمتها عندما رأت ذلك الجسد الطاهر مغطى بشرشف أبيض ركضت وأزاحت الغطاء وبان لها ذلك الوجه الملائكي الندي الرضي ضمت والدتها وبدأت تهذي بكلام غير مفهوم ثم انهارت وسقطت ثانية بجانب السرير وتم إسعافها ثانية… مرت أصعب وأسوأ ليلة في حياتها كانت تتمنى أن تكون في حلم أو في كابوس ولكنها الحقيقة المرة وأيقنت أن أمها قد ماتت..
تعجز كل أقلام الكون في تلك الليلة أن تصف حالتها النفسية والجسدية كانت هائمة وضائعة ومنفصلة عن الوجود، مرت الأيام ثقيلة وكئيبة ومملة …
بعد شهر سافرت وقلبها يكاد ينفطر والدموع تنهمر بغزارة من عينيها وهي في حالة لا يعلمها إلا الله، مرت الأيام ووفاء مصدومة ومكلومة وموجوعة، جاء موعد الإجازة الصيفية وعادت وفاء إلى عمان ثانية ولكن الوضع هذه المرة مختلف لم تكن وفاء كما كانت سابقا تسابق الريح وتعد الساعات والدقائق؛ لأن أمها وحبيبتها غادرت الدنيا إلى الأبد ولم يعد هناك ما يجعلها تذوب شوقا كما كانت سابقا.
وصلت وفاء ولم يعلم أحد بقدومها استأجرت سيارة سياحية وتوجهت فورا إلى بيت أمها ومعها ولدها وابنتها وقفت على البوابة الرئيسة ونادت بأعلى صوتها كعادتها “يمه يمه أنا جيت ” ولكن ليس من مجيب فتحت الباب وهي تقدم رجلا وتؤخر أخرى لم تجرؤ على دخول البيت مباشرة طافت حوله، كل شيء كئيب شعرت أن الشجر والحجر والورد يبكون لبكائها أوراق الشجر اليابسة تتطاير في الممرات لتحدث خشخشة كانت تحبها وتستمتع عندما تدوسها، يا إلهي كم هي البيوت موحشة بدون ساكنيها..
دخلت البيت وهي في حالة ذهول تبكي بحرقة وألم يا الله كم كان هذا البيت نظيفا ومرتبا! وكم كان يعج بالأبناء والأحفاد والزوار ولكنه اليوم خال من أي مظهر من مظاهر الحياة أصبح البيت موحشا تفوح رائحة الرطوبة من أركانه ..
توجهت صوب غرفة أمها نادت بأعلى صوتها [ يمه يمه] ولكن ليس من مجيب صرخت ركضت بكت نادت انكبت على سرير والدتها تضمه وتشمه وسرحت نظرها في أركان الغرفة…
يا إلهي كل شيء كما كان هذه ملابسها وهنا سجادتها وهناك مسبحتها ونظارتها ومكحلتها وكيس علاجها هنا رائحتها وعطرها غاب جسدها وغاب صوتها ونفسها وغاب حضنها الدافىء وغاب ترحيبها ولكن لم تغب روحها شعر صغارها بمرارة الفقد لجدتهم الطيبة تلك
الإنسانة التي يتسع قلبها للكون كله يا ربي ماذا أفعل وماذا أقول أمي يا كل حياتي ودنيايا لم أصدق أو أتخيل أنك سترحلين يوما – الذين نحبهم عقولنا لا تقتنع برحيلهم بل هم في نظرنا خالدون -.
خرجت وفاء مكسورة الخاطر وكسيرة الجناح خرجت وهي تنتظر كلمات والدتها المعتادة في كل زيارة عندما تشيعها عند البوابة الخارجية حيث تقف سيارتها، كل مرة تقول لها عبارتها المشهورة والمتكررة (استودعكم الله الذي لا تضيع عنده الودائع… بالله عليكم يا ماما لا تسرعوا وديروا بالكم على حالكم ننتظركم الجمعة الجاية إن شاء الله لا تتأخروا مثل كل مرة).
ستبقى هذه الكلمات ترن في أذنها مادامت حية خرجت والحزن يقتلها من الوريد إلى الوريد
من سيسأل عنها طوال طريقها إن كانت وصلت بيتها أم لا؟
قالت في نفسها الأم وطن، ووطني ذهب مع الريح، قررت ألا تعود إلى هذا المكان بعد اليوم قائلة عبارتها المشهورة وداعا بيت أمي…