
بقلم: رئيس التحرير

إن سمعت في يوم ما عن الجورب الذي اهترأ من كثرة خياطته فاعلم أنك وصلت إلى القاع، واعلم أن الفقر يستوطنك وسكن البقاع، واعلم أنه لا تستطيع تفسير ذعر الناس وقتها، لأنه إن دق ببابِ أحدهم أو تسللَ بين طياتِ الحياةِ كأفعى تضيق الخناق على فريستها، تأكد حينها أن الفقر افترش المعمورة وغدا هو صاحب الدار والديار.
ملامح الفقر مليئة بالخطوط كتلك الخيوط المتشابكة والتي ازدادت عُقَداً كلما غُرِست الإبرة بنسيجه البالي فما عُدَتَ قادراً على تمييز ملامح الجورب ولا عدت تعرف هيأته، ستضحك حينها وتبتسم ابتسامة القهر المليئة عزة وإباء، وتدمع عيناك وتبكي بعدها، تناقض ما بعده تناقض وضوضاء تعيشها لا تستطيع وصف فحواها، فالفقر بشع وأنينه موجع شبحه يرفرف على حواف الصمت، لتسمع صوته الميت يحوم فوق جثث العار، بؤس الفقر الذي ترزخ تحته كرامة الرجال، ويا له من زمان هَمَدَ واهتَوَرَ صاحبه وحُكِمَ عليه بالموت حياً.
ما عرف طعم الفقر إلا من احتضنه العوز، لا من لوح له من بعيد، قد يكون محتاجاً ولكنه مستور، قد يكون قليل الرزق ولكنه راضٍ بقسمة ربه، قد يكون معسر الحال ولكن لسانه حامداً لله، وقد يكون فقيراً مُعدماً لا يملك قوت لحظته وسُدت السُبل في وجهه وتغلقت الأبواب وضاق الحال وضاق، وصراع الحياة اشتد وخطوط الهم رُسِمَت على الملامح، وكلما اقترب الفرج تبددت الآمال واسودت الدروب كالليالي المخيفة، ولكنه الراضي الشاكر الحامد وهذا عزاؤنا.
ما أشد وطأت الفقر عليهم، فقلوبهم في مأتم وعيونهم تغرق في بحر الكرب، والعجز رفيقهم مهما حاولوا، وما يزيد الطين بلة موت الإنسانية في قلوب الكثيرين الذين يعيشون حياتهم بــ”اللهم نفسي” أنا ومن بعدي الطوفان، وما نظروا حولهم وما اعتبروا وما شعروا بمعنى الضياع الذي يعيشه الآخرون.
غريبة هي الدنيا أناس يجدون كل ما يريدون ويشتهون ويتمنون ولكنهم يعيشون النقص والحرمان ولا يعرفون طعم الحياة الحقيقي رغم أن كل ما يرغبون به يجدونه بمجرد التفكير به وهم دائمو التذمر والشكوى ويلعنون الحياة التي يعيشون ولا يعجبهم العجب يرافقهم الحزن والتعاسة وفي المقابل نجد المحروم الفقير المحتاج ومن ألمت به الفاقة يشكر الله ولا يشكو لغيره، تسعده أبسط الأشياء ويفرح لأقل الأمور.
أتعرفون نحن بالتأكيد كما نقول دائماً لا نعمم الحالات ولكل قاعدة شواذ ولكننا نؤكد ونعمم أن الرضى هو سيد الحال والأحوال، فهما كانت حالتك ومهما وصفت أوضاعك، إن لم يكللها الرضى والقناعة عشت شقياً مذلولاً خالٍ من البركة والخير. وكونوا على ثقة بأن الفقر ليس فقر المال وضيق العيش فقط بل فقر الإيمان واليقين، فقر الكرامة واحترام النفس، الفقر فقر الإنسانية والتي باتت عملة نادرة هذه الأيام ” وإن خليت بليت “.