

تعودت كلما عدت من عمان مبكراً، وأسعفني الوقت ان أعرج على تلك الأحياء السكنية الجديدة التي انتشرت جنوب عمان انتشار النار بالهشيم… فلل جميلة – يكاد قرميدها يضويها- وعمارات سكنية شاهقة وبنية تحتية معقولة، وشوارع سوداء صماء تربط الأحياء المتقاربة، وكنوز من الذكريات تتزاحم في مخيلتي تعيدني للماضي التليد هنا كانت مروج الحنطة.
” حصادين ولاقطين وسنابل” وهناك كانت قطعان المواشي وعلى حواف الوديان ينعشك عطر الخزامى، وتأسرك رائحة النفل والشيح والقيصوم والبختري، ويطربك صدى الوديان ،
ويشجيك صوت الحادي، وتلهب مشاعرك أغاني الرعاة وأهازيج الحصادين وزغاريد النشميات [اللاقاطات] ومن بعيد تطل مواكب الإبل تحمل قمح المواسم للبيادر وجميع من في الحقل ينتظرون [ الجورعة] كل هذا أصبح في خبر كان بل أصبح ذكرى حزينة لن تعود….
سيمفونية جميلة كانت تعزفها الطبيعة ذهبت مع الريح وانتهت إلى غير رجعة، زحفت الحضارة الإسمنتية المتوحشة، وشوهت كل هذا الجمال الأخاذ.. تمر عبر الشوارع فلا تجد فيها أحدا بيوت مسكونة لكنها ساكنة، قبل أيام قليلة ذهبت إلى أحد هذه الأحياء أبحث عن الحياة وكنت أسير بسيارتي الهوينا شاهدت بمحاذاة الشارع منظرا شدني، شاهدت شجرة خروب كبيرة تحتها[ مصطبة] يجلس عليها رجل كبير السن أصبح الوجه، طلق المحيا، جميل الطلة يجلس متربعاً كأنه الصقر وبجانبه سيدة جليلة يكاد الوشم الأخضر يغطي ربع وجهها ومعهما بنت سمراء محترمة تخدمهما بإخلاص، وبالقرب من المصطبة ” شبة نار ” عليها طباخ قهوة وابريق شاي وربابة عتيقة معلقة على غصن الشجرة ورياح ناعمة تداعب محياهما وظل ظليل في عز القيظ وفراش عربي ـ جنابي ومخدات ـ حقيقة منظر رائع فوق الوصف وفوق الخيال يأخذ بالألباب، منظر آسر يسر الخاطر ويبهج النفس ويداعب الروح …
عزمت على أن أكون ضيفا متطفلا ثقيل الظل عليهم، أوقفت سيارتي، وتوجهت نحوهم، وسلمت عليهم، رد الرجل السلام وقال لي من أنت؟ قلت له “صاحب”…
ثم قلت بس يا شيخ العرف يقول ما حدا يسأل الضيف قبل ثلاثة أيام وثلث، قال يا ولدي يرحم أيام زمان اليوم اختلط الحابل بالنابل وأنا رجل عاجز وما عندي غير الحريم…
قلت له أنا فلان الفلان قال يا هلا بصبيان الصباح من أي عشيرة أنت ؟ قلت له أنا من حسبان/ ومن عشيرة الشريقيين/ ومن عائلة المشاعلة / قال وسبع تنعام وش يقرب لك شاعر البلقا أحمد المشاعلة؟ قلت له جد أبي قال تحفظ شعره؟ قلت له لا قال يا خسارة… بعد أن اطمأن قال لي تفضل ـ عذرته طبعا عندما علمت أنهما مقعدين وأراد أن يتأكد مني ـ.
جلست معهما جلسة مسائية شاعرية نادرة نسمات حانية ووجوه مأنوسة وسوالف وحكم وربابة وقصيد وهجيني، بدأت الشمس بالغروب والعصافير تعود بطانا وتغرد ألحانا جميلة، تناولت دلة القهوة من يد البنت وقهويت نفسي احتسيت ثلاثة فناجيل معتقة وكان معزبنا النشمي ابو راكان يستمتع بهذا الجو الرومانسي قلت له ما شاء الله وجهك منور وشكلك مبسوط رد علي متفاخراً، وقال يزهر الإنسان مع الشخص الذي يسقيه السعادة كل يوم ولو بالكلمات، قلت له ما أغرب ما تفعله الكلمة الحنونة بنا ! الإنسان تصنعه كلمه وتهدمه كلمة قال صدقت، قلت له كيف أم راكان معك؟ قال لو تعرف قصتي معها ما سألتني، قلت احكي لي، قال قبل ستين سنة من الآن رحت على البير اسقي فرسي ولقيت أم راكان هناك “ترد على البير ” قال من شفتها سرت بجسمي قشعرية مثل الكهربا والله يا ولدي حبيتها من أول نظرة حبيتها حباً لو توزع على كل خلق الله لكفاهم قال : رجعت على البيت مسروراً وحبيت أبشر أمي لإني وحيدها وأغلى أمانيها أن أتزوج وتشوف عيالي، وأضاف طارت أمي من الفرح وعمرت الزغاريد لما سمعت الخبر .. توقفت أمي فجأة وقالت عساها مهي فلانه؟ قلت هي يمه قالت انسى قلت ليه؟ قالت فيه مشكلة كبيرة وقديمة بين أبوك وابوها وعشيرتنا وعشيرتهم، قلت لها تحرم علي النسوان إذا ما تزوجتها، تغير وجه أمي وحطت الحزن بالجرة وأردف قائلاً مختصر الكلام وديت أكثر من عشرين جاهه من شيوخ ووجوه البلقا حتى وافق أبوي وعشت معها أجمل وأسعد أيام حياتي…
عدل أبو راكان جلسته ولمعت عيناه أحسست به وعلى الفور ناولته الربابة حتى يعبر عما في خاطره وجر عليها جرة تجرح القلب وقصد قصيدة من شعره سواها على أم راكان أيام خطوبته استعاد فيها كنوز ذكرياته وخلجات قلبه وضمنها ألحاناً خرجت من سويداء قلبه ثم بعدها قصد قصيدة جزلة للمرحوم الشاعر أحمد المشاعلة ، في هذا الجو الرومانسي الرائع المفعم بعبق الماضي صدح المؤذن ولامس صوته شغاف قلوبنا تناول أبو راكان ابريق الماء وشاهدت الماء ينساب على لحيته الطاهرة قبلت رأسه وودعته ونصف قلبي معه وفي الطريق كنت استعيد صوته الشجي وتقاسيم وجهه الوضاء وأنا في قمة النشوة حيث ذبت حباً وشوقاً مع قيم الوفاء والحب والصفاء التي تجسدت في شخص هذا الرجل وشخصيته المتفردة .